من حقّنا أن نتساءل: أيّ من الزعيمين (الجزائري أم الليبي)، يستطيع أن يقرّ، في دخيلة نفسه، أنه ينتمي إلى ذات الطينة، التي انتمى إليها الإستعمار، عندما قاما بانتفاضتَيهما أو ثارا، على نظامَيهما السياسيّ القائم، ليتمكّن كل منهما من الإستيلاء على عَصَب ذلك النظام، وهو: السلطة.
ممّا سيعني أن أيّ سيرة تتناول مسألة الإنتفاض، هي تجديف في حقّ النظام القائم، وتشجيعٌ للسواد الأعظم على الإنقضاض على الوضع، وتحقيق ما كان دوماً حلم الأجيال وهو: تغيير الحكم، أملاً في الفوز بالعدل.
أفلن يكون الكتاب (ثورات الصحراء الكبرى)، إنطلاقاً من هذه الرؤية، تحدّياً للزعيمَين، يستدعي عمل ما من شأنه أن يحقق تدبيراً هو، في يقينهما، ضربٌ من دفاع عن نفسٍ؟!
ومن حقّ رئيسٍ مُخضرم، في مقام هواري بومَدين، أن يكون العرّاب في شئون مغامرة كالسلطة، سواء في مفهوم الإنقضاض، كما فعل بإسقاط زميل نضال هو «بن بلّة»، سواء بالإحتفاظ، كما فعل في حقّ جنرالات عظام ذوي شأن في الثورة ضدّ الإحتلال، مثل «بن شعبان»، مما يعطيه الحقّ في أن يُفتي في شأن المؤامرات، التي تهدّد النظام السياسي القائم دوماً، وما يندسّ في بطون الكتب ليس أهوَنها مفعولاً!
والواقع أن سوء الحظّ رافق هذا الكتاب الشقيّ حتّى قبل صدوره في صيغة كتاب. فقد نُشر في الثلاثة أشهر الأخيرة من عام 1969م في جريدة «الثورة» بطرابلس، مسلسلاً على حلقات، في وقتٍ تزامن مع تعيين صديق قديم، ومبدع كبير، هو «أمين مازن»، رئيساً لهيأة المطبوعات، التي تصدر عنها الصحف وكل المؤسسات ذات العلاقة بالنشر آنذاك. ولم يمضِ على بدء نشر الحلقات بضعة أسابيع حتّى أخبرني نائب رئيس التحرير «محمد الشاوش» عن تلقّيه لعدّة مكالمات هاتفيّة من مكتب قيادة الثورة تستفهم عن سيرة «هذه الثورات». بعد بضعة أيام أخرى صارحني بتلقّي احتجاج من وزير الخارجية آنذاك «صالح بويصير» الذي سأل بالحرف: «أين وَجَد الكوني هذه الثورات؟». لم يمضِ أمدٌ آخر حتى صرّح لي «أمين مازن» بتعرّضه لضغوط من القيادة تأمر بإيقاف نشر «الثورات»؛ ولكنه قاوم ببسالة تليق بإنسانٍ مخضرم، ذي تجربة في الإنتصار للحقيقة طوال العهد الملكي، وتاريخٍ مجيد في حبّ الوطن هو ذخيرة ما حاجج به وما يحاجج به من مؤهّلات، فرفض الإمتثال لأوامر كتم أنفاس «الثورات»، ليدفع منصبه بعد أمدٍ وجيز ثمناً لإصراره على الإنتصار لأبسط حقّ في الوجود وهو: حريّة التعبير.
وكان على هذه الوثيقة أن تنتظر ستّة أعوام كاملة لكي تستيقظ من غفوتها، لتوقظ الفزع في سَدَنَة السلطة. الموَسوسين دوماً بهاجسٍ لجوجٍ هو وجود قوى تتربّص بمعشوقتهم، لكي تختلسها منهم، أمثال الزعيم بومَديَن، الذي لم يتردّد في أن يستقلّ الطائرة الرئاسيّة، لينزل ضيفاً على الزعيم الليبي، الأحدث عهداً بالوجود في فردوس السلطة، بعد أن تلقّى، يقيناً، تقارير استخباراتيّة، تحذّر من خطورة ما تدبّره «الثورات» ضدّ أنظمة الحكم في البلدين، لتُغني هذه التقارير السيد بومَديَن مشقّة البحث عن الكتاب، للإطّلاع عن كثب على حقيقة المكيدة المزعومة، المدسوسة في بطن الكتاب، وهو ما لم يكن ليكتفي به زميله، الذي استصدر أمراً بتزويده بالكتاب، ولكن ليس قبل أن يطمئن على استصدار قرار جديد لقبر الكتاب للمرّة الثانية، ليُحرَق هذه المرّة بدل أن يُحظَر!
وهو ما يعني أن افتراض حسن النيّة، الكامن وراء الفضول في الإطّلاع على مضمون الكتاب، لم يكن ليشفع في التسامح مع الكتاب، كما لم يشفع في شأن استصدار الحظر في شأن كاتب الكاتب، بمنعه من الخروج من أرض الوطن، حال حلوله في أرض الوطن، نظراً لعجز أهل التشريع عن اختلاق صيغة، لمنع المذكور من دخول الوطن، بوصف هذا الإجراء هو الحيلة الأمثل، لإنسانٍ موجود أصلاً خارج الوطن!
فما لا يجب أن نعوّل عليه هو وجود العدالة، في واقع حكمٍ، اغتربت فيه حِكمة الحُكم، منذ غابت في واقع الحُكم روح الناموس، الذي يعتمد الزهد في السلطة، أساساً لما اعتادت القبيلة المهاجرة أن تسمّيه «العُرف»، القاضي باختيار الأخيار، لتولّي أمر الناس، حتّى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى إجبارهم على هذا الخيار، لسببٍ بسيط وهو أنّهم، بقبولهم للقيام بهذا الدور، لا يتنكّبون وسام شرف، ولكنّهم يؤدّون ذلك الواجب، الذي صار منذ الأزل حُجّةً في الفوز بالسعادة، هذه السعادة، التي يتوهّم مريدوها أنها رهينة احتكار الحقيقة، لأن احتكار الحقيقة هو ما يكفل الاستمتاع بممارسة التسلّط، فيسيئوا، من حيث شاءوا أن يُحسنوا، وهو ما يعني أن جيلنا يخطيء عندما ينتظر عدالةً من واقع حُكمٍ محكومٍ بنزعةٍ عدميّةٍ في كل ما متّ بصلة لمكارم الأخلاق، لأن مادام شعار المدرسة الحداثية هو: «كل شيء مباح»، في مرحلة استطاع فيها المسّ الأيديولوجي أن يجرّد واقع الجيل من روح الله، فلا يبقى للملّة الرومانسية، أمثال محرر هذا البيان، إلّا أن يجدوا لأهل الحُكم عُذراً، لأنهم طينة مسبوكة من معدن إفيون العصر، وهو الأدلجة، وهو العلم الذي يلقّنه لنا فنّ الرواية، التي لا تعترف بالعواطف، بل عليها أن تحكّم العقل، فترتضي أن تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، عندما تجد المبرّر حتّى للنّموذج الشرّير، الذي يحترف ممارسة الشرور في النَّص الروائي، لأنه لا يفعل ذلك استجابةً لهوى عارض، ولكن بناء على حُججٍ تجود بها علينا أحجية معقّدة هي الحياة. وهو ما يعني أن علينا أن نعي أسباب اللجوء إلى الشرّ، من قبل هذا النموذج، أو ما نراه، من وجهة نظرنا، شرّاً، لكي نفهم أنه لا يعتنق هذا الموقف من باب الترف، ولكنه يفعل ذلك بناءً على حيثيّات، واجبنا يقضي أن نتنازل عن كبريائنا، لتشخيصها جيّداً، لأن في هذه العملية الجراحية يسكن الوجه الآخر لهذا اللغز المدهش، المدعو في رطانتنا، وجوداً. ففي ملحمة «المجوس» يجود النموذج، المجسّد لروح ملك الإغواء، باقتراحٍ موجّهٍ لصاحب الزهد «أوداد»، يترجم رهاناً، يقضي بالتنازل عن كل ثروته للأخير، في حال استطاع أن يصعد قمّة الجبل العصيّ، المثيل لمسلّة لميسة، صقيلة، منيعة بفعل هذه الخصال، ولكن «أوداد»، المفطوم على صعود الأجبال منذ المهد، يستهين بالقدر، ويقبل التحدّي. مارس طقس الصعود ببسالةٍ حقّاً، وبلغ الذروة حقّاً، ولم يدرك خطيئته إلّا بعد فوات الأوان، لأن صعود مثل هذه القمم يستدعي شجاعةً، ولكن الشجاعة لا تُجدي في حال النزول منها، فخسر الرهان، ليخسر حياته، بخسارة الرهان، لأن ماذا يجدي أن نصعد، إذا أعجزنا أن نعود من هذا الصعود؟
أليس هذا هو ما تترجمه لنا الوصيّة القدسيّة: «ما نفع، أن يكسب الإنسان العالم، إذا كان سيخسر، بهذا الكسب نفسه؟».
وهو ما يعني أن التسلّط أيضاً مسألة خيار. مريدو التسلّط كلّهم على دين «أوداد»، السعيد بحرّيّته، الزاهد في حُطام دنياه، إلى أن قبل في أحد الأيام المشئومة خوض تجربةٍ ما أغناه عنها، لأن الإغواء أيقظ الإحساس الآثم بالإستكبار، والاستكبار تجديفٌ في حقّ الإيمان!
والزعيمان على دين «أوداد» في توقِهما لـ الصعود إلى أعلى، ولا يعيان أن الصعود إلى أعلى، الذي تعد به ملكة الإغواء السلطة مريديها، سلاحٌ بحدَّين، لأنها تتكتّم على مفهومٍ مزدوجٍ، لم يكن ليعترفا إلّا بشقّه الحرفيّ، الكامن في الإرتفاع بالمقام لاحتلال مكانة في الأعالي، تحقّق رفعةً، شرفاً، في نظر أهل الأسافل. ولكن من أين لهما أن يفحصا ما وراء النصّ، ليكتشفا الشقّ الآخر، الرهيب، المستتر في باطن الجبل الجليدي، حيث يقيم الشقّ الإستعاري، القائل بأن الصعود إلى أعلى مغامرة خطرة، بل هي المغامرة الأخطر على الإطلاق، لأن الروح إذا صعدت إلى أعلى، فهي قبلت النزول ضيفاً لدى جلالة بارئها، وليس لها أن تراهن على العودة إلى الوراء أبداً!
هذه هي الترجمة الأمينة للدرس الذي لا يعيه مريدو السلطة، فيتوهّمون أنهم، باغتنام الأعالي، باغتنام الصعدة إلى السماء، ليس لهم أن يعوّلوا على نزولٍ آمن إلى أسفل، لأن الطمع في النزول خرقٌ للعهد المبرَم مع القدر، يستوجب قصاصاً مُميتاً هو نزيف الروح الأعظم شأناً من نزيف الدم! ومَن أقدم على هذه الصفقة فقد تنازل عن هذه الروح للداهية ميفستوفلس. هذا ما كانت «أمّ نيرون» تعيه جيّداً عندما أخبرها أحراس إبنها «نيرون» بأنه يريد قتلها، فأجابت: «فليقتلني! المهم هو أن يحكم». لأنها كانت حكيمة بما يكفي كي تعلم أن ابنها لن يستطيع أن يحتفظ بالحكم إذا لم يقتل، حتّى لو كان هذا القتيل هو أُمّه، بل قتل الأمّ هو القربان الأقوى حجّةً في البقاء في هذا العرش الملفّق من نزيف الدماء، الذي يتغنّى به المريدون بوصفه صعوداً إلى أعلى!
فكيف يحقّ لنا أن نستنكر أن يبحث مريدان، قاسمهما المشترك هو «دين الصعود»، أمراً، هو، في يقينهما، مسألة دفاع عن النّفس، حتّى لو كلّف حياة إنسان لم تثبت إدانته، لأن حقّ الدفاع عن النفس، في شأنٍ كالخلود، في مفهوم الصعود إلى أعلى، يلغي القيمة في أيّة تكلفة، سيّما إذا آمنّا معهم بأن ما يبرّئهم من أيّة خطيئة هو وضعهم الإستثنائي، كفئة قضت بألّا تسمع بآذانها، وألّا ترى بعينَيها، وألّا تفكّر بعقلها أيضاً، طوال وجودها في واقع تلك القمّة العلوية الفاتنة، الملقّبة في مفهوم الأمم، المقام في البرزخ الفاصل بين سماء الخالق، وحضيض الخلق!
يحدث هذا لسببٍ وجيه، تفرضه طبيعة الحضور في واقع «الصعود»، الذي يبطل فيهم مفعول المواهب الحسيّة، فيحجب الرؤية، ويلغي السمع، ويجهز حتّى على جهازٍ رهيبٍ هو العقل!
من هنا نستطيع أن نجزم بهيمنة الروح العدميّة، في واقع ما اصطلحنا مجازاً أن نحصره في مفهوم «الصعود» في يقين المريدين، فتغترب الحقيقة تلقائياً، نتيجة هذا التجديف، الذي يزيّف القيمة في ظاهرة ملتبسة بطبيعتها كالسلطة: هذه السلطة التي تنتدبها الدولة كضرورة لوجودها كدولة، فتخترع لها القوانين، لا لتحقق بها العدالة كملاذٍ لحضور الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، ولكن لتوطّد أقدام سلطان وجودها كدولة، فلا تكتفي بهذه الخدعة، ولكنها تجتهد أكثر، عندما تستجير بتلابيب الوطن، لتستخدمه شفيعاً في ممارسة خطاياها، فتنطلي المكيدة على السواد الأعظم، البريء في موقفه من الوطن كقيمة، لأن ما تراهن عليه الدولة هو الفراسة في خلط الأوراق، فتعمل ما من شأنه أن يوهم الرعيّة بخرافةٍ مفادها أن وجود قدس أقداسٍ كالوطن، إنّما هو رهين وجود الدولة، واحتمال وطأتها، ضرورة يفرضها لا مجرّد الإحساس بالإنتماء إلى الوطن، ولكن لذّة حبّ الوطن! لأن حبّ الوطن هو الشهادة الأخيرة، التي تجعل من استوطن هذا الحرم، يغتفر لجناب الدولة حتّى طغيانها، فيقبل بقدر الضحيّة، التي تحوّل عاشق الوطن شهيداً قيد الحياة.